الطفلة العجوز
الطفلة العجوز
تزاحمت الحافلة بأجساد العائدين من خيام اللاجئين إلى ارض الوطن بعد ما حطت الحرب أوزارها. وفى إحدى جنبات الحافلة احتضنت امرأة ابنتها وبدا عليهما القلق ونظراتهما زائغة وغير مستقرة. ساعات من الانتظار سبقتها سنوات من الخوف والحنين للعودة. والآن يعودون لديارهم والآمال تسبقهم أن يجدوا ما تركوه أو شيئا منه. فجاة توقفت الحافلة وبدات القطع تتناثر منها مهلهلة حائرة فيما حولها الكل يحاول تذكر الماضى واين الطريق إلى الدار. هكذا بدا على السيدة وطفلتها عندما نزلت من الحافلة تتطلع حولها تنظر إلى السماء والتراب. كانت تحاول اخذ قرار السير إلى اتجاه يدلها إلى بيتها. وفجأة لمعت عيناها وكادت تبتسم لولا تراب الرحيل المستمر منعها من ذلك. اختارت اتجاه فتحركت تسرع شيئا فشيئا وابنتها تمسك بتلابيب عباءتها تحاول أن تلاحق خطوات أمها المتسارعة. واستمر الأمر كذلك حتى وقفت الأم أمام بقايا منزل أمامه منخفض كأنه كان مجرى مائي وقد جف. وبجوار المنخفض تجد جزع شجرة مقطوع ومحترق.
شدت الطفلة عباءة أمها فتنظر إليها الأم بفرح يملئه القلق. تطمئن ابنتها بالوصول بسلام إلى الدار التي طالما حكت لها عنها. فهي لم تولد هنا بل في خيام اللاجئين. حكت لها كيف كانت الحياة هنا مع والدها في هذا البيت الصغير. كيف كانت الطيور تخرج كل صباح من البيت إلى البحيرة لتسبح وتستظل بشجرة التوت الضخمة المطلة على البحيرة وقبل الغروب تجرى الأم وراء الطيور تدخلهم المنزل.
اندهشت الطفلة من قول أمها أنهما وصلا إلى المنزل وكأن عيناها تبحث عن كل ما حكت الأم عنه ولكنها لم تجد شيئا. فهمت الأم نظرات ابنتها فاقتربت منها وقبلتها وهى تعطيها الأمل تقول لها أن مجرى الماء سيعود من وراء هذه التلة وستنمو الشجرة من جديد وسوف تعيد بناء المنزل وتربية الطيور وكلها أمل أن يعود أبوها الفلاح من الحرب التي أخذوه فيها وهو لا يعرف مع من سيحارب من.
هدأت الطفلة قليلاً وهى تتخيل المكان بعد إعادة البناء والإصلاح. أخذت خطوات قليلة تنظر حولها ونظراتها تدل على تصديق أمها وابتسمت للحظه ما لبثت أن تحولت الابتسامة الى خوف من جديد زاغ معه بصرها فذهبت تركض الى حضن أمها تخبئ رأسها الصغير في صدرها. قبلتها الأم في جبينها تسألها ما الذي يقلقها فنظرت الطفلة لامها في حيرة تشكو لها سؤال يؤرقها . قالت الطفلة وعينيها زائغتان فيما حولها "هل بعدما نعيد بناء كل شيء ألن تعود الحرب مرة أخرى وتأكل الدار والشجرة والبحيرة والطيور؟" اعتصرتها أمها من هول سؤال هذه الكهلة الصغيرة. كيف تتحمل سؤالا يصعب على الساسة تحمله. كيف تعيش بهذا القلق. وما الجواب الذي يهدئ روعها ويعيدها الى عالم الطفولة مرة أخرى. هل تقول لها أن الحرب لن تعود. وما أدراها ربما تعود. كل ما أمكنها تقديمه مزيداً من الدفء في أحضانها .
بقلم / محمــــــــد الجـــــــــــــابر
تعليقات
إرسال تعليق